بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله خلقكم لعبادته كما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات:56-58]، وقد بين الله لكم طريق عبادته، ومن عليكم بمواسم الخير تتكرر عليكم وتتوالى بما فيها من الفضائل والمكارم وعظيم الأجور، فعظموا - رحمكم الله - هذه المواسم، واقدروها حق قدرها، بفعل الطاعات والقربات، واجتناب المعاصي والموبقات، فإن الله لم يجعل هذه المواسم إلا لتكفير سيئاتكم، وزيادة حسناتكم، ورفعة درجاتكم.
أيها الناس، إن من المواسم العظيمة التي ينبغي للإنسان أن ينتهز فرصها بطاعة الله ذلكم الشهر الكريم، الذي قال الله - عز وجل - فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ [البقرة:185]، شهر الخير والبركات والرحمة، هذا الشهر جعله الله - تعالى - ميداناً للتسابق إلى الخيرات، فإنه شهر تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، "جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعا لتكميل فرائضكم"(1)، "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(2)، "ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(3)، "ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجة"(4)، "فيه تفتح أبواب الجنة وتكثر الطاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النار فتقل المعاصي من أهل الخير، وتغل فيه الشياطين فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره"(5).
أيها الناس "صوموا لرؤية هلال رمضان"(6)، ولا تقدموا عليه بصوم يوم أو يومين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين"(7)، إلا إذا كان على الإنسان قضاء من رمضان الماضي فليقضه، أو كان له عادة بصوم فليصمه، فإذا كان للإنسان عادة أن يصوم يوم الإثنين وصادف أن يكون قبل رمضان بيوم أو يومين فلا حرج عليه أن يصومه، وكذلك من كان يصوم من الشهر ثلاثة أيام فلم يتيسر له أن يصومها إلا في آخر شعبان فلا حرج عليه في ذلك، ولا تصوموا يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في ليلته ما يمنع رؤية الهلال من غيم أو قتر، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"(8)، ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"(9)، وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"(10)، ومن رأى الهلال يقيناً فليخبر به ولاة الأمور ولا يكتمه، وإذا أعلن في الإذاعة السعودية ثبوت رمضان فصوموا، وإذا أعلن فيها ثبوت شوال فأفطروا؛ لأن الإعلان من جهة ولاة الأمور حكم بذلك، جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه رأى الهلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً"(11).
وصوم رمضان أحد أركان الإسلام فرضه الله على عباده، فمن أنكر فرضيته وقال: إني مخير بين الصوم وعدم الصوم فهو كافر مرتد؛ لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]، وقال الله عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:185]، "فالصوم واجب على كل مسلم، بالغ، عاقل، قادر، مقيم، ذكراً كان أم أنثى"(م1)، "غير الحائض والنفساء"(12)، "فلا يجب الصوم على كافر، فلو أسلم في أثناء رمضان لم يلزمه قضاء ما مضى، ولو أسلم في أثناء اليوم من رمضان أمسك بقية اليوم ولم يلزمه قضاءه"(م2)، ولا يجب الصوم على صغير لم يبلغ، لكن إن كان لا يشق عليه أمر به؛ ليعتاده، "فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يصومون أولادهم الصغار حتى إن الصبي ليبكي من الجوع فيعطونه لعبةً يتلهى بها إلى الغروب كما جاء في الحديث المتفق عليه من حديث الرُبيع بنت مسعود رضي الله تعالى عنها"(13)، "ويحصل بلوغ الصغير إن كان ذكراً بواحد من أمور ثلاثة: أن يتم له خمس عشرة سنة، أو تنبت عانته، أو ينزل منياً بشهوة باحتلام أو غيره، وتزيد الأنثى بأمر رابع: وهو الحيض، فمتى حصل للصغير واحد من هذه الأمور فقد بلغ ولزمته فرائض الله وغيرها من أحكام التكليف إذا كان عاقلاً"(14)، وهنا نقف لننبهكم على أن بعض النساء تبلغ بالحيض وهي صغيرة، فقد تحيض لإحدى عشر سنة ولكنها لا تصوم إما لجهلها أو لجهل أهلها، وعلى هذا فيجب البحث عن هذا الأمر ونشره بين الناس حتى يعرف؛ لأن السؤال عنه كثير، فإن بعض النساء تحيض وهي في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة وتظن هي أو أهلها أنه لا يجب عليها الصوم حتى تبلغ خمس عشرة سنة وهذا خطأ، فمتى حاضت ولو لتسع سنين وجب عليها الصوم؛ لأنها صارت مكلفة، "ولا يجب الصوم على من لا عقل له كالمجنون، والمعتوه، ونحوهما، وعلى هذا المُهذري لا يلزمه الصوم، ولا الإطعام عنه، ولا الطهارة، ولا الصلاة؛ لأنه فاقد للتمييز فهو بمنزلة الطفل، ولا يجب الصوم على من يعجز عنه عجزاً دائماً كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه، ولكنه يطعم بدلاً عن الصيام عن كل يوم مسكين بعدد أيام الشهر، لكل مسكين خمس صاع من البر، أي: أن الصاع المعروف عندنا هنا يكفي لخمسة فقراء عن خمسة أيام، والأحسن أن يجعل مع الطعام شيئاً يأدمه من لحم أو دهن، ويجزئ عن البر الرز، بل هو خير منه في بعض الأحوال، وأما المريض بمرض يرجى برؤه فإن كان الصوم لا يشق عليه ولا يضره وجب عليه أن يصوم؛ لأنه لا عذر له، وإن كان الصوم يشق عليه ولا يضره فإنه يفطر ويكره له أن يصوم، وإن كان الصوم يضره فإنه يحرم عليه أن يصوم، ومتى برء من مرضه قضى ما أفطر، فإن مات قبل برؤه فلا شيء عليه، والمرأة الحامل التي يشق عليها الصوم لضعفها أو ثقل حملها يجوز لها أن تفطر ثم تقضي إن تيسر لها القضاء قبل وضع الحمل أو بعده إذا طهرت من النفاس، والمرضع التي يشق عليها الصوم من أجل الرضاع أو ينقص لبنها بالصوم نقصاً يخل بتغذية الولد تفطر ثم تقضي في أيام لا مشقة فيها ولا نقص على الولد"(م3)، "وأما المسافر فإن قصد بسفره التحيل على الفطر فالفطر حرامٌ عليه، ويجب عليه الصوم حتى في سفره؛ لأن هذا سفر لا تستباح به الرخص، وإن لم يقصد بسفره التحيل على الفطر فهو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر وقضى عدد الأيام التي أفطر، والأفضل له فعل الأسهل عليه"(15)، "فإن تساوى عنده الصوم والفطر فالصوم أفضل"(16)؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أخف من القضاء غالباً، فإن كان الصوم يشق عليه بسبب السفر كره له أن يصوم، وإن عظمت المشقة واشتدت حرم أن يصوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا - صلى الله عليه وسلم - بقدح من ماء بعد العصر فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب والناس ينظرون فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة"(17).
أيها المسلمون، أتدرون متى كان سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا؟ إنه كان سفره في فتح مكة، وقد فتحها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء الشهر، قيل: في اليوم العشرين من الشهر وبقي مفطراً في مكة عشرة أيام بقية الشهر لم يصم صلى الله عليه وسلم، وبهذا نعرف أن ما يتكلفه بعض الناس إذا ذهبوا للعمرة تجد الصوم يشق عليهم في مكة ومع ذلك يصومون، وهذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله ما هم أشد حباً للطاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هم أكمل هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يصم في مكة في العشر الأواخر من رمضان، بل ترك الصوم؛ لأن الفطر كان في ذلك الوقت أيسر له، وعلى هذا فإذا وصل الإنسان إلى مكة وهو معتمر وكان يشق عليه أن يؤدي العمرة وهو صائم قلنا له: أفطر ولو في أثناء اليوم، وأدِّ العمرة براحة، وقد وسع الله عليك، فلا تشق على نفسك.
أيها المسلمون، "إنه لا فرق في المسافر بين أن يكون سفره عارضاً لحاجة أو مستمراً في غالب الأحيان، مثل: أصحاب سيارات الأجرة (التكاسي) أو غيرها من السيارات الكبيرة، فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون، يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء عند الحاجة، والفطر لهم أفضل من الصيام إذا كان الفطر أسهل لهم، ويقضونه في أيام الشتاء؛ لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها، وأهل فيها يأوون إليهم، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، وإذا خرجوا منها فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين، ومن سافر في أثناء اليوم في رمضان وهو صائم فالأفضل أن يتم صومه، فإن وجد مشقة فليفطر ثم يقضه بعد ذلك، ولا يتقيد السفر بزمن، فمتى خرج من بلده مسافراً فهو على سفر حتى يرجع إلى بلده، ولو أقام مدةً طويلة إلا أن يقصد بتطويل مدة الإقامة التحيل على الفطر فإنه يحرم عليه الفطر، ويلزمه الصوم؛ لأن فرائض الله لا تسقط بالتحيل عليها"(18)، "ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء ولا يصح منهما"(19)، "إلا أن تطهرا قبل الفجر ولو بلحظة فيجب عليهما الصيام، ويصح منهما وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر، ويلزمهما قضاء ما أفطرتاه من الأيام"(20).
أيها المسلمون، هذه جملة من أحكام الصوم، وإذا كان الناس في رمضان يصومون ويقومون فإن من المهم أن تبين أحكام القيام في هذا الشهر المبارك، فلقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام هذا الشهر وقال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(21)، وإن صلاة التراويح من قيام رمضان فأقيموها، وأحسنوها، وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف، "فإن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"(22)تامة، وإن كان نائماً على فراشه، وإن على الأئمة أن يتقوا الله - عز وجل - في هذه التراويح، فيراعوا من خلفهم، ويحسنوا الصلاة لهم فيقيموها بتأنٍ وطمأنينة، ولا يسرعوا فيها، فيحرموا أنفسهم ومن وراءهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها ولا سجودها، ولا قيامها ولا قعودها، إن على الأئمة أن لا يكون هم الواحد منهم أن يخرج قبل الناس، أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحسان الصلاة، فإن الله - تعالى - يقول: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك:2] ولم يقل: أيكم أسرع نهاية أو أكثر عملاً بلا إحسان، وقد كان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وهو أحرص الناس على الخير والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر - "كان لا يزيد على إحدى عشر ركعة لا في رمضان ولا في غيره"(23)، ولكنه يطيل ذلك، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى من الليل ثلاثة عشر ركعة"(24)، فمن صلى التراويح إحدى عشر ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فلا حرج عليه، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قام بأصحابه في رمضان ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الناس فيعجزوا عنها"(25)، "وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما في الناس بإحدى عشرة ركعة"(26)، فهذا العدد الذي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه واتبعه فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أفضل عدد تصلى به التراويح، ولكن ينبغي أن يطيل الإنسان فيها حتى يتمكن الناس من الدعاء، ولو زاد الإنسان على هذا العدد رغبة في الزيادة لا رغبة عن السنة لم ينكر عليه؛ لورود ذلك عن بعض السلف، وإنما المنكر الإسراع الفاحش الذي يفعله بعض الأئمة فيفوتوا الخير على نفسه وعلى من خلفه.
اللهم إنا نسألك أن توفقنا جميعاً لاغتنام الأوقات بالطاعات، وأن تحمينا من فعل المنكر والسيئات، اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وجنبنا صراط أصحاب الجحيم،اللهم اجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيماناً بك، واحتساباً لثوابك، إنك جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.